في 20 آذار/مارس 2017، سيكون قد انقضى 14 عاماً على الغزو غير المشروع للعراق في عام 2003. غير أن اهتمام وسائط الإعلام في العالم قد تحوّل من العراق إلى أماكن أخرى، ومن السهل أن ينسى البعض أن العراق أصبح اليوم نهباً للدمار والخراب.
هذا الوضع هو نتيجة لحدثين اثنين خلّفا آثاراً على المدى البعيد. أولا، الحصار الذي فرضته الأمم المتحدة على العراق في عام 1990، ثم غزوه في عام 2003، بقيادة الولايات المتحدة وما تلا ذلك من احتلال. فبسبب هذين الحدثين، أصيب هذا البلد بالشلل وأصبح ملايين العراقيين يعيشون حياة ضنكة، وهم يرون بلدهم يتغيّر كما تتغير بيوتهم أيُـــما تغييــر، لتعُــمّ بذلك الفوضى بالشكل الذي نراه حالياً. فمن أجل هؤلاء الذين يتذكرون عراق الأمس وهؤلاء الذين لن يُكــتَـب لهم أن يروه، قام المركز بتوثيق هذين الحدثين والتحقيق فيهما كما يواصل رفع تقاريره إلى هيئات الأمم المتحدة المعنية وإلى المجتمع الدولي، وذلك لبلوغ هدف أسمى هو تحقيق المساءلة وإقامة العدالة سعياً إلى استرداد يوماً مَا شيء من الكرامة المسلوبة بسبب هذين الحدثين.
الحصار
فرض مجلس الأمن للأمم المتحدة في عام 1990 حصاراً مالياً وتجارياً شبه كامل على جمهورية العراق. وبدأ ذلك في 6 آب/أغسطس 1990، أي بعد مرور أربعة أيام على غزو العراق للكويت، وبالرغم من انسحاب العراق في شباط/فبراير 1991 استمر نفاذه حتى أيار/مايو 2003، ولا يزال يُطبّق جزئيا حتى اليوم، بما في ذلك مواصلة جبر الأضرار التي لحقت بالكويت.
وخلال هذه الفترة، رفض مجلس الأمن برئاسة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة كل الطعون من جانب العراق لرفع القيود. وتعتبر هذه القيود أقسى الجزاءات في التاريخ وأكثرها شمولية. ومع أن الجزاءات الاقتصادية قد صُصممت بطبيعتها لتضييق الخناق على المدنيين اقتصادياً، فقد أدت إلى انخفاض جدري في مستويات المعيشة وانهيار البنية التحتية وتراجع كبير في توفير الخدمات العامة.
وفي عام 1993، حذّرت منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة من احتمال وقوع مجاعة واسعة في العراق نتيجة هذه الجزاءات الاقتصادية. وفي عام 1995، أكدت هذه المنظمة هذا الوضع، حيث خلُصت إلى احتمال وفاة نصف مليون طفل عراقي نتيجة الجزاءات الاقتصادية المفروضة. وفي عام 1990، تضاعف 5 مرات معدل الوفيات بين الأطفال دون سنّ الخامسة. وخلُصت هذه المنظمة في تقريرها إلى أن هذه الجزاءات قد طعنت في "هــيْـــبـة المجتمع الدولي من الناحية الأخلاقية والمالية والسياسية".
وأظهرت هذه الجزاءات كيف أن الغرب استخدم مدنيين أبرياء كرهائن، حيث لم يتم التغاضي عن وفاة 1.5 مليون عراقي لقوا حتفهم فحسب، بل تم القبول بذلك صراحة. وعندما سُئلت وزيرة الخارجية السابقة مادلين أولبرايت ما إذا كانت تعتقد بأن الأمر كان يستحق وفاة نصف مليون طفل عراقي، أكدت قائلةً: "... نعتقد أن الأمر يستحق ذلك". وهذا البيان يدفعنا للتساؤل عما إذا كان يستحق ذلك كل هذه الوفايات: هل يستحق إبادة بلد بأكمله كان يوماً يُصنّف ضمن البلدان الحديثة التي تـعتــزّ بنفسها؟
الحرب ضد العراق
في ظل الجزاءات التي أصابت العراق بالشلل، تبيّن أن هذا البلد قد أصبح لقمةً سائغةً بالنسبة للولايات المتحدة والمملكة المتحدة لشنّ غزو غير مشروع في 20 آذار/مارس 2003. غير أنه يؤسفنا القول إنه بعد مرور 14 عاماً تقريباً، يمكن للنُخبة المسؤولة عن الحرب أن تتأكد تقريباً بأنها ستنعم بالحصانة مدى الحياة، فحتى مجرد الاعتذار يبدو أملا بعيد المنال.
ولا تعتبر الحرب ضد العراق مجرد خطأ، فقد استندت إلى أكاذيب واهية ومزاعم مضللة. وفي سياق التمهيد للغزو، حاولت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة حشد الدعم الشعبي لشنّ حرب ضد العراق بإطلاق ادعاءات كاذبة تُــوهِم بأن صدام حسين يعمل على تطوير أسلحة الدمار الشامل. وبين عام 2001 ومطلع عام 2003، لجأت إدارة بوش إلى هذه المسألة كي تبرّر علانيةً غزوها غير المشروع للعراق، وتُوّج ذلك بخطاب ألقاه وزير الخارجية كولن باول أمام مجلس الأمن للأمم المتحدة في 5 شباط/فبراير 2003، أكّد فيه على أنه "لا مجال للشك في أن صدام حسين يملك أسلحة جرثومية كما يملك القدرة على إنتاج كميات إضافية كبيرة منها بسرعة" ومضى يقول: "لا يُساورني أي شكّ" بأن صدام حسين يعمل على إنتاج أسلحة نووية. "لا مجال هناك للشك في أن صدام حسين يملك أسلحة جرثومية .. كما أن لديه القدرة على نشر هذه السموم والأوبئة الفتاكة وبوسائل تؤدي إلى الموت والدمار".
وزير الخارجية الأمريكي، كولن باول أثناء كلمته الموجّهة أمام مجلس الأمن للأمم المتحدة في عام 2003
غير أنه عقب عزو العراق، لم يُعثر على أي أسلحة دمار شامل كما اتضح أن المبررات المستخدمة لتمرير فكرة الغزو ما هي إلا مبررات خاطئة. بالإضافة إلى ذلك، فقد فشلت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في الحصول على دعم الأمم المتحدة اللازم لغزو العراق، فشنّوا هذا الغزو دونما أي قرار من مجلس الأمن. وهو ما يعني أن الحرب لم تُشنّ استناداً إلى ذرائع واهية فحسب، بل انتهكت أيضا ميثاق الأمم المتحدة، وهو ما يشكّل بالتالي خرقاً كبيرا للقانون الدولي.
وقد بدأ هذا المنعطف المُظلم في تاريخ العراق مع عملية أمريكية بعنوان "إحداث الصدمة والترويع"، شملت عدداً كبيراً من عمليات القصف الجوي المدمرة ضد بغداد، زعمُوا أن الهدف منها هو تدمير هيكل القيادة وكبح قدرات هذا البلد على الرد مجدّدا. وبعد مرور 6 أشهر، ألقى الرئيس الأمريكي خطابه "المهمة قد أُنجِزت". غير أنه أصبح جليا أن الوضع في عام 2017 بعيد كل البعد عن "النصر" الذي أعلنته قوات التحالف، حيث أن الغزو وما عقِب ذلك من احتلال قد أصابا العراق بالدمار، ويبقى تنظيم الدولة الإسلامية أحدث مظاهر عدم الاستقرار الذي سيرعب الأجيال المقبلة من العراقيين.
وبالإضافة إلى حالات الوفيات والتشرد، دُمّـر هذا البلد عن آخره نتيجة للغزو والاحتلال. وألحق القصف المتكرر أضراراً بآلاف المباني الخاصة والعامة، بما فيها المنازل المدنية والمستشفيات والمدارس والمحلاّت والمنشآت التجارية، كما هُدّمت جميع البنى التحتية الرئيسية. وتمثلت الآثار الناجمة في تدهور القطاع العام، لاسيما قِطاعا التعليم والرعاية الصحية. مما نجم عن ذلك عودة تفشي سوء التغذية وانتشار الأمراض على نطاق واسع، وهو ما يعني توقف نمو الأطفال جسديا وتعليميا خلال العقود المقبلة.
ومع ذلك، فقد حدث ما هو أسوأ، ففي ضوء عمليات قوات التحالف لحلّ المؤسسات الحكومية، بما في ذلك قوات الجيش والأمن، انتشرت داخل المجتمع العراقي نزعات طائفية واندلعت توترات عِرقية. وعملت قوات الأمن الجديدة التي أنشأتها قوات التحالف على إدماج شريحة واسعة من مقاتلي المليشيات من الطائفة الشيعية، ممن أصبح وجودهم متأصلا داخل قوات الأمن العراقية. وهو ما أدى إلى إعدام بعض طوائف المجتمع، التي تعرضت للاعتقالات التعسفية وألوان التعذيب والإعدامات على أساس طائفي، وهو المشهد الذي ما برِحنا اليوم نعاينُه بشكل منهجي ومتكرر.
المساءلة
مجلس الأمن للأمم المتحدة هو أعلى هيئة مؤسسية للحفاظ على السلم والأمن الدوليين. غير أن ما فرضه من جزاءات كانت بمثابة إجراء عقابي، فإضافة إلى أنها كانت ترمي إلى تحقيق أهداف نزع الأسلحة بموجب القرار رقم 687، فقد كانت بمثابة استغلال صارخ لسلطة مجلس الأمن. وقد تضررت سُمعة مجلس الأمن نتيجة حالات الوفيات الناجمة ومظاهر الفساد وسوء الإدارة بخصوص برنامج "النفط مقابل الغذاء" وحالة الجمود إزاء سياسات العراق في آذار/مارس 2003.
إن الغزو الذي تعرض له لاحقا العراق، وهو بلد ذو سيادة وأحد الأعضاء المؤسسة للأمم المتحدة، من جانب قوات تحالف تقودها الولايات المتحدة كان عدوانا غير مبرر. ووفقاً لمحكمة نورنبرغ، لا يعتبر ذلك جريمة دولية فحسب، بل جريمة دولية أسمى تحوي بداخلها الشرّ المتراكم الجامع ولم يحظ الغزو بأي ترخيص فحسب، بل إن الاحتلال انتهك القانون الدولي بوسائل شتى، بما في ذلك التعذيب المنهجي وسوء المعاملة التي طالت الشعب العراقي. ومع ذلك، فشلت الأمم المتحدة في اتخاذ ما يلزم من إجراءات في الوقت المناسب بموجب ميثاقها. وقد اكتفت بالتصرف وكأنها شاهد أخرس، فقد فشلت أيضا في الاعتراف بجسامة جرائم العدوان هاته وما نتج عنه من آثار، وحتى اليوم لم تحاسب الأمم المتحدة المسؤولين عن ذلك، بل تركت الشعب العراقي يعاني الأمرين طوال هذه السنوات.
المطالب
عند النظر إلى العراق في عام 2017، يبدو من المستحيل أن يتخيل المرء كيفة تضميد الصدمات التي يتعرض لها العراقيون أفراداً وجماعات.
غير أنه من الواضح أن الاقتصار على "التفوّه بالحقيقة" ومقاضات المسؤولين كي يمثلون أمام العدالة الجنائية لا يكفي لتضميد جراح الشعب العراقي. وينبغي أن تكمُن الخطوة الأولى لدفع التعويضات في البدء بإجراء تحقيقات والوقوف على الإساءات التي ارتكبت أثناء الحرب وخلال الغزو. وينبغي لجميع البلدان، بما فيها الولايات المتحدة، أن تصادق على النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ويجب إحالة بعض الحالات الجسيمة على هذه المحكمة لإجراء تحقيقات ومحاكمات مستقلة.
ثانيا، يجب متابعة المسؤولين عن الغزو لما نجم عن أعمالهم من آثار. وهكذا، ينبغي إنشاء لجنة الأمم المتحدة لتعويض الضحايا العراقيين. وينبغي أن يشمل ذلك إعادة بناء المؤسسات الحكومية العراقبة وشبكة البُنى التحتية والمدارس والمستشفيات والممتلكات الخاصة وكل الجهات التي تعرضت لأضرار خلال الحرب وأثناء الاحتلال. وينبغي أن يشمل ذلك أنشطة لتنظيف البيئة بإشراف وتمويل من قوات التحالف المسؤولة عن استخدام اليورانيوم المستنفد وغيره من العناصر السامّة، مما نتج عنه زيادة مثيرة للقلق في حالات الإصابة بالسرطان ناهيك عن التشوهات الخلقية لدى المدنيين العراقيين. كما ينبغي أن يشمل ذلك توفير الدعم المالي والسياسي لللاجئين الذين فرّوا من العراق والذين شُرّدوا داخليا.
أما توني بلير وجورج بوش، الزعيمان اللذان تبنّيا المقولة «إني سأقف بجانبكم مهما كلفت حرب العراق»، فقدما الاعتذار إلى شعبيهما. غير أن الشعب العراقي – الأحرى به أن يتلقى الاعتذار – لم يحظ بأي من هذه العناية ولا هذه المشاعر. وهو ما يعني أنه خلال عام 2017، أي بعد مرور 14 سنة، يبدو من غير المرجح تقديم الاعتذار، وفي الوقت الذي يُمحى فيه العراق من ذاكرة العديد من المسؤولين، يصبح من الأهم بمكان الحصول على العدالة. فقد تركت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وراءهما العراق جسداً ممزقاً من التعذيب. إن ما عجزا عن تركه ورءهما هو جبر أي أضرار أو دفع التعويض عما اقترفوه من أعمال، وهو ما يجب اعتباره سوى بداية لدين ضخم مستحق للشعب العراقي، الذي لا يمكن له أن ينعم بالحياة نفسها التي عهدها من قبلُ.
ويبقى تحقيق العدالة أحد الأهداف الرئيسية التي يصبو إليها مركز جنيف الدولي للعدالة، والمنصوص عليها في ميثاقها التأسيسي. وقد عمل هذا المركز، منذ إنشائه، على رصد وتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان وسعى إلى تحقيق العدالة لضحايا هذه الانتهاكات باستخدام كل ما يُتاح من سبل قانونية. وفي حالة العراق، سيواصل المركز دعوته إلى إقامة العدالة إلى أن يتحقّق هذا الهدف.
***