بتاريخ 8 يناير 2017، أقدم سائق شاحنة فلسطيني على دهس مجموعة من قوات جنود الاحتلال في القدس، مما أسفر عن مقتل أربعة وإصابة 13 آخرين على الأقل. وقد تم تحديد هوية السائق ويتعلق الامر بـفادي أحمد القنبر (28 عاما) وهو من سكان حي فلسطيني قريب من جبل المكبر في القدس الشرقية. ووقع الهجوم في المنطقة المسماة ب "أرمون هنتسيف بروميناد"، بالقرب من الحدود الفاصلة غير المرئية التي تفصل بين القدس الشرقية المحتلة والقدس الغربية.

ففي حين أدانت بعض الأصوات الهجوم ووصفته بالعمل "إرهابي"، ينظر إليه البعض الآخر على أنه أسلوب من أساليب المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي. ومن اجل تحليل واقعي للحادثة، يعتقد مركز جنيف الدولي للعدالة أنه من الضروري أن يأخذ بعين الاعتبار السياق الذي وقع فيه الهجوم والتحقيق في الأسباب الكامنة وراء ذلك، وكذلك في الأسباب الجذرية للمواجهات العنيفة المتكررة في المنطقة. وفي هذا الصدد، يستند المركز على واقع العنف الممارس من قبل الاحتلال، بما في ذلك الاستخدام غير المتناسب للقوة من الجانب الاسرائيلي وعدم الامتثال للسلطة، وفقدان الفلسطينيين الأمل من أجل التغيير.

واقع العنف الذي يمارسه الاحتلال

أولا وقبل كل شيء، وصف الهجوم بأنه عمل من أعمال "الإرهاب" يحجب حقيقة أن هذه الواقعة وغيرها من الاحداث المماثلة هي رد فعل على واقع أعنف يتعرض له الفلسطينيون على نحو يومي من قبل السلطة القائمة بالاحتلال.

ان إدانة العنف دون تحفظ تصرف سياسي سليم، لكنه يخفي حقيقة العنف الناجم عن عملية الاحتلال الجائر من قبل اسرائيل والذي يشكل عنصرا من عناصر الوجود الفلسطيني. الصورة التي تتكشف للفلسطينيين مليئة باليأس المطلق في مواجهة التدهور المستمر للأوضاع على أرض الواقع، والمتمثل في جملة من الانتهاكات، كالاستخدام المفرط للقوة من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، العمليات العسكرية المتكررة، والسياسات الإسرائيلية التمييزية والقمعية والممارسات التي تنتهك حقوق الإنسان الفلسطيني. قبل رفع الصوت عاليا ضد "الإرهاب" الفلسطيني المزعوم، يجب علينا أولا أن ننظر في الظروف التي سمحت بتهيئة مثل هذه الأعمال.

يواجه الفلسطينيون العنف بمجرد وضعهم الأقدام في الشارع، فالاحتلال الاسرائيلي الجائر عمل على خلق وضع يعرض السكان المدنيين لمواجهة واسعة وقوية ومستدامة من قبل الجيش الممول من قبل الدولة الإسرائيلية، بدعم من الحكومة الاسرائيلية.

كسلطة احتلال، تتواجد إسرائيل بشكل مبالغ فيه في الحياة اليومية للمواطن الفلسطيني في الأراضي المحتلة، بما في ذلك في القدس الشرقية المحتلة. وعليه يواجه الفلسطينيون الإجراءات التي يمليها الجنود على أساس يومي. في القدس الشرقية (كما هو الامر في الضفة الغربية). ويحرس الجنود المدججين بالسلاح و"الحرس" وضباط الشرطة المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية في الأحياء الفلسطينية، والمواقع الدينية مثل المسجد الأقصى، ومداخل البلدة القديمة. لا سيما بوابة دمشق التي أصبحت مثالا للعسكرة، التي تحيط بها فرق من الجنود والشرطة، ويتجولون أحيانا على ظهور الخيل، و"كاميرات المراقبة" تراقبهم. و اما استمرار هذا المشهد يخضع الفلسطينيون، بينهم أطفال صغار وكبار السن، يوميا الى "التفتيش الأمني"، وغالبا ما يواجهون تصرفات مشينة من قبل القوات الإسرائيلية كالتخويف التهديد والمضايقة والعنف.

وردا على تصاعد العنف منذ سبتمبر عام 2015، أصدرت إسرائيل قوانين جديدة تقر من خلالها السماح لقوات الاحتلال بإطلاق النار على أي شخص يزعم أنه يشكل تهديدا على حياة طرف اخر، علاوة على الموافقة على تسليح المدنيين الإسرائيليين اليهود. عمليات الجيش الإسرائيلي تخترق المجال العام والخاص للمواطن الفلسطيني، وتقوم يوميا بتصرفات بوليسية تضيق الخناق على الفلسطينيين، فالجنود يحتلون نقاط التفتيش، ويقومون بمسارات دورية، ويفتشون المنازل والهيئات للبحث عن الأسلحة أو أشياء مشبوهة أخرى. مما ولد لدى الكثير من الفلسطينيين الشعور بالتهديد بسبب الوجود العسكري الدائم، وخصوصا في ظل ارتفاع عمليات القتل خارج نطاق القضاء من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي.

من جهة أخرى وفي انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، تشن إسرائيل غارات عسكرية وعمليات واسعة النطاق في الضفة الغربية وقطاع غزة، مما أسفر عن مقتل مدنيين وهدم البنية التحتية وتدمير المؤسسات العامة، والمنازل، وذلك تحت ذريعة مواجهة التهديدات المزعومة وهجمات المتشددين.

ان ما يميز الوضع في فلسطين هو عدم التكافؤ في القوة بين الاحتلال العسكري الإسرائيلي والفلسطينيين والاستخدام غير المتناسب للقوة ضدهم. فعقب هجوم الشاحنة في القدس، فرضت إسرائيل العقاب الجماعي ضد الفلسطينيين في انتهاك واضح للقانون الدولي، فقد جاء الرد الإسرائيلي على الهجمات. ابتداءا من ليلة الأحد، حيث اقتحمت قوات الاحتلال حي القدس الشرقية من جبل المكبر، أين يقيم القنبر، واجرت حملة اعتقالات وفرضت الحصار عن طريق اغلاق قبالة المدخل الرئيسي للحي بكتل الاسمنت و"السيطرة على حركة المرور" في مداخل أخرى. وفي الوقت نفسه، قامت قوات بحراسة مسيرة نظمها المستوطنين الإسرائيليين وحملوا خلالها شعارات تحريضية. ان فرض إسرائيل العقاب الجماعي المتكرر على السكان الفلسطينيين، غالبا ما تنطوي عنه عمليات التوغل العسكري وهدم المنازل والأبنية الأخرى، والاستخدام المفرط للقوة ضد المدنيين الأبرياء، الذي يعد غير متناسب بشكل صارخ.


وعلاوة عن العنف غير المتناسب الذي تنفذه بشكل مباشر القوات العسكرية الإسرائيلية، تستمر إسرائيل في التوسع الاستيطاني غير القانوني، بالاستمرار في تشييد المستوطنات غير القانونية وجدار الفصل العنصري، الى جانب استغلال الموارد الطبيعية، وارتكاب انتهاكات قانونية أخرى (مثل الاعتقال التعسفي وسوء المعاملة) والقهر الاقتصادي، وفرض قيود على حركة الأشخاص، والتهديم المتكرر للمنازل وتدمير البنية التحتية، والإنكار المستمر للحق العودة للاجئين والنازحين الفلسطينيين، كل هذه الممارسات أدت الى تفاقم العنف الذي يواجهه الفلسطينيون. كما تحرم هذه الإجراءات الفلسطينيين من حقوقهم الأساسية وتحبط الجهود الدولية المبذولة من أجل تحقيق سلام عادل وشامل ودائم على أساس حل الدولتين بدعم من الأمم المتحدة.

فقدان الأمل

ويصبح مشهد الاحتلال أكثر تعقيدا لفقدان الحلول وفرص التغيير الفعال، حيث يعاني الشعب الفلسطيني يوميا من فشل جهود الأمم المتحدة والمجتمع الدولي وعجزهم عن اتخاد إجراءات فعالة، فالى حد الان تواجه اسرائيل بالكاد العقوبات التي فرضها المجتمع الدولي على الرغم من تعنثها وعدم امتثالها لقرارات الأمم المتحدة واستمرارها في انتهاكاتها السافرة للقانون الدولي وحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي ، والاتفاقيات ذات الصلة. وعلى الرغم من ذلك، تبقي العديد من الدول على التعاون مع الاحتلال الإسرائيلي من خلال تقديم الدعم العسكري والاقتصادي والدبلوماسي وحتى الايديولوجي.

في الحقيقة تقتصر الانتقادات الدولية على الهجمات الفردية والمعزولة لبعض الأفراد الفلسطينيين على حساب العنف المستمر الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني من قبل الاحتلال الإسرائيلي. وهذا يدفع أيضا بعض الفلسطينيين لارتكاب أعمال العنف. أحد المواطنين الفلسطينيين من مدينة الخليل وصف الوضع على النحو التالي: " يشعر الناس أنهم يفتقدون للحماية، فلا اتفاقات حماية، ولا وجود فعلي للسلطة الفلسطينية. اما المجتمع الدولي، وتحديدا الولايات المتحدة الأمريكية، فهم لا يهتمون بهذه المسألة ولا يدرجونها في جدول أعمالهم ولا يتخدون قرارات صارمة بشأنها ناهيك عن التماطل في الانتقال الى الخطوة التالية من أجل حل الدولتين.لهذا فقد المواطنون الامل وتعبوا من شرح أسباب اقدام بعض الفلسطينيين على القيام بهجمات فردية،... المواطنون يعانون نفسيا ويعانون من يومياتهم ، كما تعلمون، فيكل عشرة كيلومترات تصادفك نقاط التفتيش، الناس هنا اصبحوا يفكرون بهذه الطريقة: أنت تريد أن تتنفس، تريد ان تثبت أنك موجود، يجب علينا أن نشعر بأننا بشر. نحن لسنا حيوانات ... "
" لماذا يعاملنا الاحتلال بهذا الشكل؟ " تشديد الخناق في ظل الاحتلال الإسرائيلي والشعور باليأس بسبب تخلي المجتمع الدولي عن القضية وضعف القيادة الفلسطينية، دفع الفلسطنيين الى ارتكاب أعمال عنف فردية للمقاومة ضد النظام الظالم. طالما استمر الاحتلال الإسرائيلي، ستستمر مقاومة الفلسطنيين للعنف الذي يواجهون. ومن أجل وضع حد لسفك الدماء في المنطقة، على إسرائيل أن تتوقف عن ممارساتها غير المشروعة ".

ويكرر مركز جنيف الدولي للعدالة مرة أخرى موقفه بالتذكير بأنه على الأمم المتحدة والمجتمع الدولي أن يبذلا كل جهد ممكن لتحقيق السلام الحقيقي في فلسطين، وهو ما لا يمكن تحقيقه دون ممارسة الشعب الفلسطيني لكامل حقوق غير القابلة للتصرف بما في ذلك الحق في تقرير المصير، والحق في العودة للاجئين، والحق في إقامة دولة مستقلة.

اشترك في القائمة البريدية
الرجاء اضافة البريد الإلكتروني الخاص بكم في الحقل أدناه للحصول على النشرة الإخبارية الخاصة بمركز جنيف الدولي للعدالة