د. هانز كريستوف فون سبونك
كان الثامن من تشرين الثاني (نوفمبر) 1998 يوم وصولي الي بغداد بعد سفر في البر مسافة قرابة 900 كلم من عمان، فأنظمة عقوبات الأمم المتحدة لم تكن تسمح بتواصل جوي مبرمج، وكانت الرحلات الجوية الخاصة نادرة. ومع دخول موكب سيارات الأمم المتحدة، واكبتني من الحدود الاردنية ـ العراقية في طريبيل، الي مجمع فندق القناة في بغداد، حيث كانت مكاتب الأمم المتحدة، كان صحافيون أجانب وعراقيون في الانتظار. كانوا يريدون الاطلاع علي ملاحظات الوافد الجديد بشأن السحب السياسية التي كانت قد بدأت تتلبد منذ أن علقت الحكومة العراقية التعاون مع لجنة الأمم المتحدة الخاصة UNSCOMوتم للتو سحب مفتشي الأسلحة التابعين للأمم المتحدة من العراق. وأراد الصحافيون أيضاً تكوين انطباع عن رأيي في تعييني منسقاً دولياً للشؤون الإنسانية في العراق، وعما إذا كان لديّ ما أقوله عن المواجهة المتفاقمة حول التفتيش عن الأسلحة. ولم أكن أعرف الكثير عن شأن أعمال التفتيش عن الأسلحة وشأن نزع أسلحة العراق. لم يكن هذا الأمر جزءاً مما انتدبت له. لكني لم أجد صعوبة ولا ترددت في الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بمسؤولياتي. وقد أوضحت أني كنت أشعر بأن عليّ دوراً ثنائياً أؤديه. أولاً أن أكون مديراً ناجحاً لبرنامج النفط مقابل الغذاء ، وهو المبادرة الإنسانية المتفق عليها بين مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة والحكومة العراقية للتخفيف من وطأة العقوبات الاقتصادية. ثانياً أن أشرح الأوضاع الإنسانية في العراق للأمين العام للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي بأسره.
وعلمت في وقت متأخر جداً أن فهمي لهذه الوظيفة الثانية لم يكن مستساغاً في واشنطن ولندن. وقد أفصح جميس روبين، الناطق الرسمي باسم وزيرة الخارجية الأمريكية، مادلين اولبرايت، عن هذا الأمر في موجز صحافي في وزارة الخارجية الأمريكية، إذ قال: هذا الرجل يتقاضي راتبه ليعمل لا ليتكلم . هل كان منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنساينة أداة استغلال أم مشاركاً مقبولاً في السجال العراقي؟ كان هذا مدار خلاف في وقت مبكر، وظل كذلك طوال فترة عملي في العراق.
في أواخر عام 1998 كان العراق في سنته التاسعة من العقوبات الاقتصادية الشاملة والحظر الصارم علي الاسلحة. ومن سوء حظ الشعب العراقي ان برنامج النفط مقابل الغذاء ، الذي اتفق عليه بين الحكومة العراقية ومجلس الأمن في نيسان (ابريل) 1995، لم يدخل حيز التنفيذ إلا بعد مزيد من التأخير الضار في كانون الاول (ديسمبر) 1996.
خلال الاعوام السابقة كانت السلطات العراقية والأمم المتحدة مشتبكتين في جدل وخلاف حول كيف ينبغي تطبيق العقوبات الاقتصادية وكيف ينبغي انهاؤها في الختام. وكان العراق في حالة ضعف شديد وبأمس الحاجة الي استيراد مواد غذائية وأدوية وسلع صناعية للحفاظ علي بنيته التحتية المعقدة ونظامه الصحي. وكان للأرصدة المجمدة، وصناعة النفط المتداعية، والواردات المقننة تأثير سريع ومدمر في الاقتصاد والبني التحتية الاجتماعية والمادية وفي معيشة الأغلبية الساحقة من الشعب العراقي. وكان من شأن الابقاء علي هذا الوضع مدة اطول ان يؤدي الي وفيات وحالات عوز علي نطاق لم يسبق له مثيل.
عندما غزت الحكومة العراقية الكويت في آب (اغسطس) 1990، وتلت الغزو حرب الخليج الثانية في مطلع 1991، كان السكان العراقيون قد بلغوا من الوهن مبلغا كبيرا نتيجة ثمانية اعوام من الحرب ضد ايران (1980 ـ 1988) ودكتاتورية في الداخل فاقدة للأهلية باطراد. وكانت الحكومات ومجلس الأمن وامانة الامم المتحدة مجتمعة تدرك هذه الحقائق.
في مستهل عام 1991، اجبر ائتلاف دولي من القوات المسلحة بقيادة الولايات المتحدة الجيش العراقي علي انهاء احتلاله غير الشرعي للكويت والتسليم بالهزيمة في النهاية. وافترضت الحكومة العراقية والشعب العراقي وقتذاك ان مطالب قرار الامم المتحدة رقم 660 بتاريخ 2 آب (اغسطس) 1990 تمت تلبيتها، وبالتالي ستنتهي العقوبات الاقتصادية. لكن بدلا من ذلك، اكد قرار الامم المتحدة رقم 678 بتاريخ 15 نيسان (ابريل) 1991 استمرار العقوبات الاقتصادية. وبررت ذلك مطالب جديدة للامم المتحدة تتعلق بنزع الاسلحة. كان العراق قد خسر حربا واستسلم، وكان سكانه منهكين ومحبطين. ومع ذلك، بقي طاغيتهم حيا يرزق، يدير دفة الحكم وبرنامج اسلحة دمار شامل. وكان حجم هذا البرنامج معروفا جيدا بالنظر الي ان حكومات غربية وشرقية وشركات متعددة الجنسيات شاركت في تطويره بفعالية.
كانت كوكبة مثل هذه مريحة سياسيا، بالنسبة الي الولايات المتحدة علي الأقل، لأنها بررت وجودا عسكريا مستمرا في الخليج بمزاياه الجيوستراتيجية والسياسية والاقتصادية.
وكان الثمن الذي دفعه الشعب العراقي غاليا؛ فليس من بلد قط تعرض لعقوبات اقتصادية شاملة من الامم المتحدة مثل ما تعرض له العراق. ولذلك، كانت الاعوام التي تلت حرب الخليج 1991 كارثة نزلت بالعراقيين. وتفيد وثائق موجودة لدي الامم المتحدة ووثائق اخري بأدلة وافرة ودامغة ان سوء التغذية والامراض استفحلت بسرعة، والامراض السارية، التي لم تكن تُعتبر خطرة علي الصحة العامة، كالحصبة وشلل الاطفال والكوليرا والتيفوئيد والسغل الهزالي والسغل الغذائي، ظهرت مجددا بمستويات وبائية.
كارثة إنسانية
خلال النصف الاول من عام 1991، قامت بعثتان للامم المتحدة بزيارة العراق لتقدير الظروف الانسانية بعد فرض العقوبات في عام 1990 والحرب في عام 1991. وفي هذا الوقت، كان جزء كبير من البنية التحتية المادية (محطات الكهرباء، مرافق المياه والصرف الصحي، الجسور، السكك الحديدية... الخ) قد تعرض للتدمير. وتبين حقيقة المعاناة الشديدة كلّ من نائب الامين العام مارتي اهتيساري والموفد التنفيذي للامين العام للامم المتحدة بيريز دي كويار، الامير صدر الدين آغا خان، الذي ترأس هاتين البعثتين. ولا عجب في انهما خلصتا الي وجوب توفير موارد مالية ضخمة علي جناح السرعة لتلافي استشراء الكارثة الانسانية القائمة في العراق. وعلي الرغم من واقع مأساة متصاعدة ومناشدات الامم المتحدة وسواها طلبا لموارد كي يوضع حد لأسوأ مظاهر الفاقة، فقد كان السخاء الدولي دون المستوي؛ اذ من مجموع التبرعات الطوعية التي طلبتها خمسة التماسات انسانية للامم المتحدة خلال فترة 1991 ـ 1996، والتي بلغت 1.2 مليار دولار، لم تتعد المساهمات 420 مليون دولار، او 34 بالمئة من الاموال المطلوبة.
وعلي الرغم من ان منظمات، مثل كاريتاس (Caritas) و كير (Care) وIPPNWو مجلس الكنائس العالمي و منظمة العفو الدولية ، وطبعا اللجنة الدولية للصليب الاحمر ، ايدت نتائج ابحاث الامم المتحدة، اصدرت تلك المنظمات تقاريرها بشأن ارتفاع نسبة سوء التغذية والنقص في الادوية وازدياد الامراض المنقولة بالماء وغيرها من الامراض. إلا ان الرأي العام العالمي وكثيرا من الحكومات لقي صعوبات في التمييز بين محنة شعب بريء وسياسات نظام دكتاتوري، الامر الذي اثر في استعدادهما لدعم برامج طارئة من اجل المدنيين في العراق. وهذا لا ينطبق علي الدول التي شكلت مجلس الامن التابع للامم المتحدة خلال تلك الاعوام، وبخاصة الدول الخمس الدائمة العضوية فيه؛ اذ كانت تعي ان العراق بلد مستورد للمواد الغذائية بصورة دائمة، وانه بات في ظل الدمار الذي خلفته الحرب اشد اعتمادا علي مثل تلك الواردات.
ويدل قرار مجلس الامن رقم 666 بتاريخ 13 ايلول (سبتمبر) 1990 علي ان المجلس لم يكن علي بصيرة بواجب اتخاذ تدابير فورية لحماية الشعب العراقي، وطلب ببساطة ان تقوم لجنة الامم المتحدة للعقوبات ضد العراق بـ تقرير ما اذا كان ثمة حاجة انسانية عاجلة لمد العراق او الكويت بالاغذية .
ولو كان هناك اهتمام حقيقي بخير الشعب العراقي، لأُخذت تحذيرات الامينين العامين دي كويار وبطرس بطرس غالي بشأن الاحوال المتدهورة في العراق بجدية اكبر، ولكانت الاستجابة الهزيلة لمناشدات الامم المتحدة بخصوص تعهدات طوعية قد أُكملت بلا صعوبة. ولو ان الحكومات اضافت الي مساهماتها 820 مليون دولار، او مبلغا سنويا صغيرا قدره 200 مليون دولار، لعوضت عن النقص وضمنت تمويل الحد الأدني من مقومات البقاء خلال الفترة 1992 ـ 1996.
اهتمام بالأسلحة أكثر من الإنسان
وبالعودة الي الماضي، وتذكُر تطور أزمة العراق في اعوام متتالية، وصولا الي حرب الخليج الثالثة في عام 2003، يمكن القول ان مزيجا من احتواء متعمد وتركيز علي نزع الاسلحة فاق الاهتمام بالوضع الانساني. وشكل هذا السياسة الدولية للولايات المتحدة بشأن العراق، وكذلك سياسة حكومات اخري خلال الاعوام الخمسة الاولي من العقوبات.
اضحى الدليل علي خطورة البؤس البشري في العراق بيّناً في سياق التسعينات. فالضغط ازداد علي الحكومة العراقية ومجلس الامن كي يتوصلا الي اتفاق بشأن الحاجات الانسانية لتلافي انهيار المجتمع العراقي انهيارا كاملا. واتضح ان الحكومة العراقية طرف غير متحمس للتفاوض؛ فبالنسبة اليها كان الغرض من العقوبات تأمين اذعان العراق لمطلب سحب جميع قواته (من الكويت) فورا وبلا شروط ، و استعادة سلطة الحكومة الكويتية الشرعية . وفي نظر السلطات العراقية شكل التفكيك الواقعي لسيادة الدولة العراقية في قرارات لاحقة للامم المتحدة خرقا للاتفاق الذي اعتقدت انها توصلت اليه في عام 1990. فالقرار رقم 661 فرض عقوبات علي العراق حتي انسحابه من الكويت ولم يكن مجلس الامن راغبا في مناقشة هذا الاعتراض العراقي. وفي الواقع، اعتبرت الحكومتان البريطانية والامريكية رفض العراق للقرارين 706 و712، فضلا عن محاولات اخري لمجلس الامن لوضع برنامج انساني، تأكيدا لاستعداد حكومة صدام حسين للتضحية بالشعب العراقي في لعبة الايهام بالتفوق السياسي.
كانت اسباب رفض العراق مقترحات الامم المتحدة اعقد من ذلك كثيرا. اولا، لم يسبق ان فُرضت عقوبات من النوع الذي أُخضع العراق له. ثانيا، طالب مجلس الامن بأن ينقل العراق مسؤوليات عوائد نفطه الي الامم المتحدة. ويغدو انتاج النفط تحت اشراف دولي وخاضعا لضوابط تصدير واستيراد صارمة. ثالثا، تُدفع تعويضات لأطراف تزعم تكبدها خسائر بسبب الغزو العراقي للكويت.
بالاضافة الي ذلك، أثار اتفاق حول وجود فريق كبير من العاملين في الامم المتحدة في العراق مخاوف عميقة بشأن استقلال العراق. وكان هناك احساس بكبرياء مجروحة وشعور باذلال لحضارة عريقة كان يراد لها الرضوخ لهؤلاء، الذين اعتبرهم العراقيون طارئين علي الحضارة.
بعد اعوام من مفاوضات محبطة وما صاحبها من ترد لظروف المعيشة في العراق اتفق نائب رئيس الوزراء طارق عزيز والامين العام للامم المتحدة بطرس بطرس غالي في مستهل عام 1996 علي وضع ترتيبات عملية لتطبيق ما اصبح يعرف بـ برنامج النفط مقابل الغذاء ، وهو الاعفاء الانساني من اجل العراق الرازح تحت وطأة العقوبات. وقد تقرر الاطار القانوني لهذا البرنامج من قرار مجلس الامن 986 بتاريخ 14 نيسان (ابريل) 1995. ولدي وصولي الي بغداد في تشرين الثاني (نوفمبر) 1998، كان عامان من هذا البرنامج قد اختُتما. وكانت حكومة العراق والامم المتحدة قد بدأتا الاعداد المشترك للمرحلة الخامسة ذات الأشهر الستة من برنامج النفط مقابل الغذاء، وذلك للفترة الممتدة من تشرين الثاني (نوفمبر) 1998 الي ايار (مايو) 1999.
مشروع ضخم ومسيس
لم يسبق للامم المتحدة قط ان اخذت علي عاتقها برنامجا انسانيا كبيرا ومعقدا ومسيسا بهذا القدر. وكان الملخّص الذي تلقيته قبل اسابيع قليلة من زملاء في مكتب برنامج العراق (OIP) التابع للامم المتحدة في نيويورك مدخلا مفيدا وضروريا الي قضايا ادارية وقضايا متعلقة بالعاملين. ومع ذلك، رغم التماساتي المتكررة، لم يتضمن الملخص النقاط السياسية التي كنت احوج ما اكون اليها. ولم اكن وقتذاك علي يقين مما اذا كان مرد ذلك الي عجز أم لأن الجوانب السياسية للعلاقات بين الامم المتحدة والعراق كانت تُعتبر امتيازا خاصا بنيويورك، ولهذا لم تكن جزءا من ملخص منسق الشؤون الانسانية. وجعلتني زيارات لاحقة لمقر الامم المتحدة اقتنع بأن مرد ذلك الي الامرين كليهما. وكان هناك قضايا عديدة محددة كنت بحاجة الي تعليمات اساسية بشأنها، والأهم هو أني كنت بحاجة الي الاستئناس بسياسة الامم المتحدة التي كانت عليّ تمثيلها في العراق. وكان امرا حيويا بالنسبة إليّ ان افهم المقاربة العراقية في مناقشة مراحل برنامج النفط مقابل الغذاء . وقد سعيت ايضا لفهم العلاقات بين الحكومة في بغداد والسلطات الكردية المتمتعة بحكم ذاتي في الشمال.
هل كانت الامم المتحدة مستعدة لاستغلال مساعيها الحميدة كي تسهل حوارا بين المحافظات الكردية الثلاث والسلطة المركزية في بغداد؟ ماذا كان علي الامم المتحدة ان تقوله عن اعادة تأهيل للبنية التحتية تشمل البلد ككل؟ كما اني أملت بتلقي معلومات وافية عن الاحوال السياسية الخاصة السائدة في مناطق الاهوار في الجنوب العراقي، وهي الاحوال التي ظهرت بشكل بارز جدا في تقارير مفوض حقوق الانسان بخصوص العراق. كنت بحاجة الي معرفة ما اذا كانت علاقة ستربطني بمفوض الامم المتحدة الخاص بحقوق الانسان في العراق، ماكس فان در ستويل (Max Van Der Stoel)، وزير خارجية هولندا السابق. وكنت تائقا الي التزود بمعلومات عن كبار مسؤولي الحكومة الذين سأتعامل معهم بصورة منتظمة. وافترضت ان المخابرات العراقية والاجنبية ستراقب عملياتنا حيث كان لنا مكاتب في العراق، وبخاصة في بغداد وفي المناطق الكردية.
ولذلك كان همي معرفة ماهية تجربة الامم المتحدة في هذا الصدد. وقد كان مركز معلومات الشؤون الانسانية للعراق (UNOHCI) في المبني نفسه الذي كانت فيه مفوضية الامم المتحدة الخاصة (UNSCOM)، أي مجموعة نزع السلاح، في بغداد. هل كانت هناك سياسة بشأن التفاعل بينهما؟ الي أي حد تعاونا، في الجانب الانساني، مع لجنة الامم المتحدة الخاصة في ميادين من مثل الادارة والامن والخدمات الطبية؟
كنت ادرك انه ليست هناك منظمات دولية غير حكومية كثيرة وذات برامج في مناطق تحت سيطرة الحكومة في بغداد. هل شجعت الامم المتحدة برامج مشتركة مع منظمات غير حكومية؟ هل استطعنا المشاركة في تمويل برامجها؟
اصبت بخيبة أمل، ان لم اقل صُدمت، لأن مكتب برنامج العراق في نيويورك كان عاجزا كليا عن تزويدي من اجل مهمتي في العراق باجابات عن أي من هذه الاسئلة الاساسية.
ولما كنت قد تنكبت المهمة الاضافية التي انتدبني الامين العام لها كمسؤول عن أمن موظفي الامم المتحدة في العراق، توقعت ايضا ان اتلقي ملخصات مفصلة عن الوضع الامني في بغداد ونواح اخري في البلد.
في تشرين الثاني (نوفمبر) 1998 كان نحو 450 موظفا دوليا وقرابة 1700 موظف عراقي يخدمون الامم المتحدة في برامج انسانية في العراق. وكان هناك ايضا حوالي 200 موظف تابعين للامم المتحدة ومنخرطين في مهمة نزع السلاح. وبالاضافة الي بغداد، كان للامم المتحدة حضور كبير في اربيل والسليمانية، وهما اثنتان من المحافظات الكردية الثلاث في الشمال العراقي. وفي حين ان اعدادا قليلة فقط من موظفي الامم المتحدة كانت مقيمة في اماكن اخري مثل الموصل وكركوك، للسهر علي مرافق تخزين الاغذية بشكل رئيس، فقد كانت هناك رحلات برية مديدة يومية لموظفي الامم المتحدة المعنيين بالشؤون الانسانية في هذا البلد البالغة مساحته 437.000 كلم مربع والممتدة مسافاته من الحدود الشمالية مع تركيا والحدود الجنوبية مع الكويت، اي 1200 كلم.
وكما في بلدان اخري للامم المتحدة وجود فيها، يُقصد بخطط ادارة الامن ضمان ان تكون الامم المتحدة في وضع يؤهلها في أي وقت للاستجابة لظروف امنية متغيرة حفاظا علي سلامة الموظفين. ولا حاجة الي تأكيد ان هذا الامر كان ذا اهمية خاصة في حالة العراق. وإبان توجيهاتي الاولية كان مكتب الأمن التابع للامم المتحدة في نيويورك عاجزا عن تحديد موقع خطة ادارة الامن من اجل العراق، فضلا عن ذكر الخطوط الرئيسة لقضايا امنية بشيء من التفصيل. وفي نهاية الامر، وجد ضابط امن نسخة انقضي عهدها رغم ان قسم الامن في مكتب بغداد كان، كما اكتشفت بعد وصولي الي العراق، قد أعد هذه الوثيقة المهمة جدا ونقلها قبل ذلك الي مقر الامم المتحدة.
تضمن اليوم الاخير من توجيهاتي في نيويورك لقاء مع الامين العام للامم المتحدة كوفي انان. وقد كان هو الذي جعلنا جميعا في الامم المتحدة، وفي وقت سابق من العام، فخورين حين اتخذ في شباط (فبراير) 1998 قرارا شجاعا بالسفر الي بغداد رغم اشارات زجر من الحكومة الامريكية، وبخاصة من وزيرة الخارجية مادلين اولبرايت. وقد افلح في نزع فتيل أزمة كبيرة نشأت بين الولايات المتحدة والعراق نتيجة توقف التعاون بين لجنة الامم المتحدة الخاصة والحكومة العراقية.
عندما التقينا في مكتبه في الطابق الثامن والثلاثين من مبني الامانة العامة في 30 تشرين الاول (اكتوبر)، كانت رسالته إليّ ان الوضع الانساني في العراق في ظل العقوبات خطر، وان ما لدينا من وسائل لتخفيف معاناة الشعب غير كافية. وقال لي بعبارات واضحة: اتوقع ان تبذل ما في وسعك لاستخلاص اقصي ما يمكن من برنامج النفط مقابل الغذاء لمنفعة الشعب العراقي . وخالجني شعور عميق بالعاطفة والدفء اللذين صدرا عن الأمين العام. وكان اللقاء هذا خاتمة طيبة لاسبوع حفل بالارباك في مقر الامم المتحدة.
في جنيف، وفي طريقي الي بغداد، التقيت دنيس هاليداي، الزميل منذ ثلاثين عاما، وكان قد استقال قبل ستة اسابيع من المنصب الذي كنت علي وشك تحمّل مسؤولياته. وبعد ايام قليلة وحافلة معاً عرفت الكثير من سياسة العقوبات ومحنة شعب وبيروقراطية الامم المتحدة، كما عرفت الكثير عن موظف شريف انف ان يكون جزءا مما اعتقد انه سياسة معيبة واجرامية من مجلس الامن تجاه العراق .
في بغداد كانت اولويات العمل الاساسية واضحة نوعا ما. والي جانب التعرف الي زملاء في الامم المتحدة، والحكومة العراقية، والسلك الديبلوماسي وممثلي المنظمات غير الحكومية، كان عليّ ان اعوّد نفسي علي الحصانة الانسانية. وقد كان برنامج النفط مقابل الغذاء، الذي غطي الفترة الممتدة من الفترة 26 تشرين الثاني (نوفمبر) 1998 الي 24 ايار (مايو) 1999، في مراحل اعداده الاخيرة وشمل الحكومة العراقية والسلطات الكردية ومكاتب الامم المتحدة في بغداد. وكان لا بد من ان ترفعه الحكومة العراقية الي نيويورك لنيل موافقة الامين العام في 26 تشرين الثاني (نوفمبر) 1998.